من علامات عدم الصّحة تقديم المبررات

  • بقلم الدكتور سعد النزيلي

خطر في بالي منذ يومين وضع العلماء حالياً، فالبعض منهم مكبّل حساً، والبعض مكبّل معنى، والبعض مكبّل حسّا ومعنى، وقليل ما هم، وصار العالم يتحاشى ويورّي، وحبب إليه الخلوة، وجنح إلى العزلة، فلم أكتب في هذا الباب، ثم نمت اليوم قليلاً، ورأيت أني أكتب في هذا الباب، فاستيقظت ومسكت القلم لكتابة ما جال في فكري يقظة ومناما.

 وذلك أن ذات البلاغ؛ هو في حد ذاته بلاء على المبلِّغ، سواء كان في عصر مشرق أو في عصر مظلم، ولهذا قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم  (إنه لم يأت أحد بمثل ما أوتيت به إلا عودي) وهذا له ترابط مع المبلَّغ، ونفسه الأمّارة بالسوء، وأخذه العزة بالإثم، فالعالم يواجه في حياته جميع هذه الأنصاف، بغضّ النظر عن عصره، وبالتالي فمسألة الابتلاء والامتحان توجد بوجود التبليغ، وتذهب بذهابها، وكلما كان التبليغ مجملا؛ كان الابتلاء محتملا، وكلما كان التبليغ مفصلا؛ كان الابتلاء مجلجلا.

نعلم جميعاً أن العالِم مأمور بالبلاغ والتبيان، وأنه يجب عليه أن يصبر على ما أصابه من الأذى والعدوان، وأنه يتحمّل أمانة أعظم من أي إنس أو جانّ، وأنه يتحاسب أكبر من محاسبة غيره؛ بين يدي الديّان، وأن العلم يُنتزع بموته، فلا يبقى إلا الرويبضة والجهلاء، والحمقى والسفهاء، وكل هذه المعلومات؛ هي من المسلّمات، وعدم بلاغه في وقت الحاجة، لا يُسَلَّم له بعرض المبررات.

ومما يؤكد هذه النظرية؛ وهي أن البلاغ وتحمّل مسؤوليته في حدّ ذاته بلاء، هو أن الابتلاء على العلماء والفقهاء، كان موجودا في زمن الدولة الأموية، والتي كانت تحكم بشرع الله، فقد فرّ أبو هريرة، وأهين أنس بن مالك، وقتل الحسين بن علي وعبدالله بن الزبير وسعيد بن جبير، وأذل النخعي، وذهبت أنفس كثيرة من القرّاء، وكان ما وقع بينهم من فتن، هو من أشدّ الابتلاء على العلماء.

وعندما قامت الثورة العباسية على الدولة الأموية، وكان قائدها أبو مسلم الخرساني، والتي قتل فيها ما بين ست مئة إلى مليون شخصاً، تخلل ذلك حينها وبعدها ابتلاءات كثيرة على العلماء، حيث دخل بعدها فتنة الاعتزال، وحبس العلماء، وقتل أحمد بن نصر الخزاعي، وحبس وجلد أحمد بن حنبل، وهرب جمع من العلماء، وورّي آخرون، مع أن الدولة العباسية؛ نهضت فيها الحضارة العلمية، والآراء الفلسفية، والحجج المنطقية العقلانية، إلا أن ذلك لم يعف العالِم من التصنيف والتخويف والتجديف والتعنيف.

إذن؛ خلْق المبررات، وذكر المقدمات؛ لأجل الخمول والكسل، وترك الهمة والعمل، هو نوع خلل، فقد وقع الابتلاء على العلماء، في الدول الحاكمة بالشرعية الإسلامية، كذلك هو موجود في الدول الحاكمة بالنظم العلمانية، فالابتلاء في حق العالم، أمر لاصق، وحكم ملاحق، فإن ترك البلاغ لأجل ذلك فقد وقع في أمر ماحق، والله المستعان، وعليه التكلان، ولاحول ولا قوة إلا بالله .

إقرأ المزيد :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *