ابو مسعود البدري رضي الله عنه

 ابو مسعود البدري من هو :


هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أُسَيْرَةَ، الْخَزْرَجِيُّ، الأنصاريُّ، الْبَدْرِيُّ، كان يُكْنَى بأبي مَسْعُودٍ، وهو مشهور بكنيته. الطبقات الكبرى (٨١٣/٥)، ومعرفة الصحابة (٢١٤٧٩/٤)
وهو حَمْو سيدِ شبابِ أهلِ الجنَّة، الحسنِ بن علي بن أبي طالب، سِبْطِ النبيِّ ﷺ ورَيْحانتِهِ، فقد تزوج الحسنُ مِن أُمِّ بَشيرٍ بنتِ أبي مَسْعُودٍ -رضي الله عنهم جميعًا-. تاريخ دمشق (٣٧٨/١٩)، والإصابة (٤٣٣/٤).
وقد اختلف أهل العلم في سبب تسميته بالبدريِّ، فقد قال بعضُهم: إنَّه لم يشهدْ غزوة بَدر الكبرى، وإنما سُمِّي البدري؛ لأنَّه سَكَنَ بدرًا. تاريخ بغداد (٤٩٩/١)، والسير (١٠٥/٤).
وذهب البعضُ؛ كعروة بن الزُّبير، والزُّهري، والبخاري، ومسلم، وغيرهم، إلى أنَّه سُمِّي البدري؛ لشهوده غزوة بدرٍ الكبرى، وهذا هو الذي تُؤيِّده الأدلة. سير أعلام النبلاء (١٠٥/٤)، والإصابة (٤٣٣/٤).
وقد احتجَّ البخاري على ذلك بأحاديث أخرجها في صحيحه، منها ما رواه عن عروة بن الزبير، أنَّه قال: (أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ، جَدُّ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ، شَهِدَ بَدْرًا). صحيح البخاري (٤٠٠٧).
وممَّا يُؤيِّد قولهم ما أخبر به التَّابعي الجليل عامر بن سعد البجلي، حين قال: (دَخَلْتُ عَلَى قُرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، فِي عُرْسٍ، وَإِذَا جَوَارٍ يُغَنِّينَ، فَقُلْتُ: أَنْتُمَا صَاحِبَا رَسُولِ الله ﷺ وَمِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، يُفْعَلُ هَذَا عِنْدَكُمْ؟ فَقَالَا: اجْلِسْ إِنْ شِئْتَ فَاسْمَعْ مَعَنَا، وَإِنْ شِئْتَ اذْهَبْ، فَإِنَّ رَسُولَ الله ﷺ قد رَخَّصَ لَنَا فِي اللَّهْوِ فِي الْعُرْسِ). رواه النسائي (٥٥٣٩)، والحاكم (٣٤٨)، وحسَّنه الألباني في آداب الزفاف ص (١١٠).
فلا إشكال أبدًا أن يكون -رضي الله عنه- قد شهد بدرًا وسكنها.
وكَانَ أَبو مَسْعُودٍ شابًّا طويلًا جَسيمًا، تُشْبه تجاليدُه تجاليدَ عُمَرَ بن الخطاب -رضي الله عنهما-. تاريخ دمشق (٤٠/ ٥٣١).
وكان -رضي الله عنه- أحد السَّبعين العظماء الذين اصطفـاهم الله ليُغيِّروا مجرى حيــــاة البشريَّة، وذلك حين اجتمعوا في يثرب، وقالوا: حَتَّى مَتى نَتْرُك رَسُول الله ﷺ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟! ثم لم يلبثوا حتى ارتحلوا إليه ﷺ واجتمعوا به ليلًا في شِعب العقبة، وبايعوه على أن يهاجر إليهم، فيمنعوه وينصـروه حتى يُبلغَ رسالة ربِّه ولهم الجنَّة. ينظر في ذلك مسند أحمد (١٤٤٥٦)، والسلسلة الصحيحة (٦٣).
فكانت بيعتهم هذه نقطة تحوُّلٍ في مسار دعوة الإسلام، فهي نواةُ تأسيس دولته على أرض المدينة، وكان أبو مسعود -رضي الله عنه- من أحدث الذين شهدوا العقبة سِنًّا. الاستيعاب (١٠٧٤/٣).
والآن بعد هذه البطاقة التَّعريفيَّة المُختصرة، هيا بنا نتعرَّف عليه أكثر

خلال تسليط الضَّوء على بعض مواقف وَرَعُهُ -رضي الله عنه



كان أبو مسعود -رضي الله عنه- شابًّا عابدًا مجاهدًا، وكان جَلْدًا قويًّا، إلَّا أنَّه كان فقيرًا، فعمل في السُّوق حمَّالًا ليأتي بقوت يومه، ويكفَّ نفسَه عن مسألة النَّاس، وفجأةً عُرِضت عليه وظيفةٌ رسميَّةٌ في الدولة سَتُريحُه من هذا العمل البدنيِّ الشَّاقِّ، وسيحصل من خلالها على أجرٍ دنيويٍّ، وثوابٍ أُخرويٍّ، وهي أن يكون أحد عمَّال جمع الصَّدقات، ولكنَّ أبا مسعود رفضها، واعتذر عنها بأدبٍ ولطف.
وإليك القصَّـــة كما رواها أبو مسعود، فقد قال -رضي الله عنه-: بَعَثَنِي رَسُــولُ الله ﷺ سَاعِيًا، ثُمَّ قَالَ: «انْطَلِقْ أَبَا مَسْعُودٍ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ وَعَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ»، فَقُلْتُ: إِذًا لَا أَنْطَلِقُ، مَا أَنَا بِسَائِرٍ فِي وَجْهِي هَذَا، اصْرِفْهَا عَنِّي يَا رَسُولَ الله، فقَالَ ﷺ: «إِذًا لَا أُكْرِهكَ». سنن أبي داود (٢٩٤٧)، والمعجم الكبير للطبراني (٦٨٨)، والسلسلة الصحيحة (١٥٧٦).
لا شكَّ أيُّها القارئ أنَّك تتساءل الآن مُتعجِّبًا: ما سبب رفضه؟!
سيذهب ما في نفسك أخي الحبيب حين تعلم أنَّه شيء وَقَرَ في النَّفس، تعلموه من رسول الله ﷺ، أَوْرَثَ هذه النَّفوسَ خشيةً من الله تحملهم دائمًا على تَجَنُّب الشُّبهات؛ خشيةَ الوقوع في المحرمات، واتِّقاء كلِّ ما يضرُّ بآخرة العبد، فكان الواحد منهم حريصًا على أن يجعل بينه وبين الحرام مسافةً لا يخرقها؛ عملًا بقول رسول الله ﷺ: «اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَى جَنْبِ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى الله فِي الْأَرْضِ مَحَارِمُهُ». رواه ابن حبان (٥٥٦٩)، وحسَّنه الألباني في الصحيحة (٨٦٩).
فلا تتعجَّب إن رأيتَ بعضَهم يستغني عن بعض المُباحات؛ تَجَنُّبَ الوقوع في المحظورات، وقد جاء عن النبيّ ﷺ في هذا قوله: «إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ». رواه الترمذي (٢٤٥١) وحسَّنه، ورواه الحاكم واللفظ له (٧٨٩٩) وصحَّحه، ووافقه الذَّهبي.
وهذا أبلغ دليل على حُسن عبوديتهم لله -جلَّ وعلا- مصداقًا لقول النبيِّ ﷺ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ». رواه أحمد (٨٠٩٥)، والترمذي (٢٣٠٥)، وحسَّنه الألباني في الصحيحة (٩٣٠).
ولقد كانت هذه التَّربية النَّبويَّة لها أثرها البالغ في تكوين شخصيَّة هذا الشابِّ الأنصاري المُكْنَى بأبي مسعود، فقد جَعلته -مع فَقْرِهِ وقلَّة ذات يدِه- يُؤثِرُ العمل في السُّوق حمَّالًا، على وظيفةٍ رسميَّةٍ في الدولة؛ خشيةَ أن يترتبَ على عمله فيها فتنةٌ تَعْصِفُ به فتضر بآخرته، فجميلٌ أن يعرف العبدُ من أين يُؤتَى ليحترز، ولذلك تَفَهَّمَ النبيُّ ﷺ رَدَّ فعل أبي مسعود بأريحيَّة، وقال له: «إِذًا لَا أُكْرِهكَ».


إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا


كانت غزوة تبوك لها ظروف صعبة تختلف عن أيِّ غزوة مضت في حياة رسول الله ﷺ، فقد كان عدد المسلمين فيها كبيرًا، ولم يجد النبيُّ ﷺ ما يحملهم عليه، حيث كان الظَّهْرُ قليلًا، والمسافة بعيدة، والْحَرُّ شديدًا، ولم تكن هناك ميزانية لتسليح الجيش، فحثَّ النبيُّ ﷺ المجتمع الإسلامي على الصَّدَقة لتجهيز الجيش المُتوجِّه للقاء الرُّوم في تبوك، الذي سمَّاه النبيُّ ﷺ بجيش العُسْرَةِ، ورغبهم في ذلك قائلًا: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ». البخاري (٤٤٥١-٤٤١٨).
فقام المسلمون يتصدَّقون ويُساهمون في تجهيز هذا الجيش كُلٌّ بحسب طاقته وإمكاناته، حتى إنَّ جماعةً من الصَّحابة -منهم أبو مسعود البدري- لقلَّة مالهم كان الواحد منهم يذهب إلى السُّوق فيعمل حمَّالًا؛ ليجمع المال فيضعه بين يدي رسول الله ﷺ، ومـع ذلك لم يَسْلَموا من ألسنة المنافقين، فأنـزل اللهُ قرآنًا يــردُّ فيه على المنافقين ويدافع به عن المؤمنين.
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، قال: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ الله ﷺ بِالصَّدَقَةِ كُنَّا نَتَحَامَلُ عَلَى ظُهُورِنَا، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ بِالصَّدَقَةِ الْعَظِيمَةِ، فَيُقَالُ: مُرَاءٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِنِصْفِ صَاعٍ، وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ إِلَّا رِيَاءً، فَأنزل الله قوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:: تعظيمُه لله ورسُوله:

كان لأبي مسعودٍ -رضي الله عنه- غلامٌ مملوكٌ يخدُمُه، وذات يومٍ أغضب هذا الغلامُ أبا مسعود غضبًا شديدًا جعل أبا مسعود يضربه بسَوْطٍ كان في يده، وفجأةً حدث أمرٌ عجيبٌ يظهر من خلاله مدى تعظيمِه لله ورسوله.
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا مَمْلُوكًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ»، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِن الْغَضَبِ، فَالتَفَتُّ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي، إِذَا هُوَ رَسُولُ الله ﷺ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ»، فَسَقَطَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ، فَقَالَ ﷺ: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ الله، فَقَالَ ﷺ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَضْرِبَ مَمْلُوكًا أَبَدًا. صحيح مسلم (١٦٥٩).
وهكذا في وسط موجة الغضب العارمة التي اعترت أبا مسعودٍ -رضي الله عنه- يظهر قَدْرُ النبيِّ ﷺ في قلبه؛ فقد سقط السَّوط من يده عند رؤيته للنبيِّ ﷺ هيبةً له وتعظيمًا.
وكذلك نلمح مدى خوفه من الله وتعظيمِه له -سبحانه-، وذلك حين ذكَّرَه النبيُّ ﷺ بقدرة الله وعذابه، فكفَّ يده، وأعتق الغلام، وأقسم أن لا يضرب مملوكًا أبدًا.
فيا لروعة الإيمان الذي بكلمةٍ واحدةٍ يُخْرِجُ صاحبَه كطوق النَّجاة من وسط أمواج الغضب المُهلِكة.


جهاده في سبيل الله


ولقد شهد أبو مسعود -رضي الله عنه- مع رسول الله ﷺ المشاهد، وخرج في العديد من السَّرايا، حتى مات النبيُّ ﷺ وهو عنه راضٍ.
ثم جاهد في عصر الخلافة الرَّاشدة حقَّ جهاده، فقد خرج مجاهدًا في ركب الفاتحين للشَّام، ومصر، والعراق، وفارس.


حِرصُهُ على تطبيق السُّنَّة


كان أبو مسعودٍ -رضي الله عنه- في رَكْبِ الفاتحين الذين حملوا نور الإسلام إلى أرض فارس، فلما فُتِحت (صَلَّى حُذَيْفَةُ بنُ اليَمانِ -رضي الله عنه- بِالنَّاسِ بِالْمَدَائِنِ فَتَقَدَّمَ فَوْقَ دُكَّانٍ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ فَرَجَعَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: أَلَمْ تَعْـــلَمْ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ نَهَى أَنْ يَقُومَ الْإِمَـــامُ فَـوْقَ وَيَبْقَى النَّاسُ خَلْفَهُ؟ فقَالَ حُذيفةُ -رضي الله عنه-: بَلَى، قَدْ ذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتَنِي). صحيح سنن أبي داود (٦١٠)، ومستدرك الحاكم (٧٦١).
وعن بَشِير بْن أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ صلاةَ العصر يَوْمًا وَهُوَ أميرُ الْكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، فقال: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أما والله لقد سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: نَزَلَ جِبْرِيلُ ﷺ فَأَخْبَرَنِي بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ، وَرُبَّمَا أَخَّرَهَا حِينَ يَشْتَدُّ الْحَرُّ، وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي الْعَصْـرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَهَا الصُّفْرَةُ، فَيَنْصَـرِفُ الرَّجُلُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيَأْتِي ذَا الْحُلَيْفَةِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ حِينَ تَسْقُطُ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّي الْعِشَاءَ حِينَ يَسْوَدُّ الْأُفُقُ، وَرُبَّمَا أَخَّرَهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ، وَصَلَّى الصُّبْحَ مَرَّةً بِغَلَسٍ، ثُمَّ صَلَّى مَرَّةً أُخْرَى فَأَسْفَرَ بِهَا، ثُمَّ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّغْلِيسَ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى أَنْ يُسْفِرَ. البخاري (٥٢١)

وهكذا تظهر -من خلال هذين الموقفين- مكانة أبي مسعود العلميَّة بين أصحاب رسول الله ﷺ، وكذلك مدى حرصه -رضي الله عنه- على تطبيق السُّنَّة، وكذلك نرى سَعة صدر الصَّحابة عند سماع النَّصيحة

 مكانته العلميَّة بين النَّاس


كان لأبي مسعودٍ -رضي الله عنه- مكانة علميَّة بين النَّاس، فقد كانوا يأتونه، ويستفتونه، ويطلبون العلم على يديه، فقد كان -كما قال عنه الذَّهبيُّ- معدودًا في علماء الصَّحابة. سير أعلام النبلاء (١٠٥/٤).
فعَنْ سَالِمٍ الْبَرَّادِ، قَالَ: أَتَيْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ أَبَا مَسْعُودٍ، فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ الله ﷺ، فقال: أَلَا أُصَلِّي لَكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ ﷺ يُصَلِّي؟ فَقُلْنَا: بَلَى، قال سالم: فَقَامَ بَيْنَ أَيْدِينَا فِي الْمَسْجِدِ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَفُصِلَتْ أَصَابِعُهُ عَلَى سَاقَيْهِ، وَجَافَى عَنْ إِبْطَيْهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَاسْتَوَى قَائِمًا حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، وَجَافَى عَنْ إِبْطَيْهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَاسْتَوَى جَالِسًا حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ سَجَدَ الثَّانِيَةَ، فَصَلَّى بِنَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ هَكَذَا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ الله ﷺ، أَوْ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ صَلَّى. أحمد (١٧٠٧٦)، والنسائي (١٠٣٧)، وسنن أبي داود (٨٦٣).
وقد كانت لأبي مسعودٍ -رضي الله عنه- محبَّة في قلوب تلامذته، فإنَّه لما سَكَنَ العراقَ زمنًا التف النَّاسُ حوله فيها وتعلَّقوا به، وأصبح مَحَطَّ ثقتِهم ونصحهم، فخرج يومًا وقد أراد سفرًا فوجد النَّاس ينتظرونه ليشيعوه، وكان من سُكَّان الكوفة فخرجوا معه حتى بلغ القادسيَّة، (فَلَمَّا ذَهَبُوا يُفَارِقُونَهُ، قَالُوا: رَحِمَكَ اللهُ، إِنَّكَ قَدْ رَأَيْتَ خَيْرًا وَشَهِدْتَ خَيْرًا، حَدِّثْنَا بِحَدِيثٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَنْفَعَنَا بِهِ، فقَالَ: أَجَلْ، رَأَيْتُ خَيْرًا وَشَهِدْتُ خَيْرًا، وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ أُخِّرْتُ لِهَذَا الزَّمَانِ لِشَـرٍّ يُرَادُ بِي، فَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ). أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (١٦٣).

حُبُّه للنبيِّ ﷺ وآلِ بيته


كان أبو مسعودٍ -رضي الله عنه- يُحبُّ آل بيت رسول الله ﷺ حُبًّا شديدًا، وكان يناصرهم، ويُؤازِرهم، ويدعو لهم، وكان يقول للنَّاس: (لَوْ صَلَّيْتُ صَلَاةً لَا أُصَلِّي فِيهَا عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَا رَأَيْتُ أَنَّ صَلَاتِي تَتِمُّ). رواه الدارقطني في سُننه (١٣٤٤).
ولا شكَّ أن هذا الحُبَّ في الأصل نابعٌ من حُبِّه لرسول الله ﷺ.

ِحرصُه على حَقْنِ دِمَاءِ المُسلمين

 
ولما وقعت الفتنة بين عليٍّ ومعاويةَ بعد مقتل عثمانَ -رضي الله عنهم- جميعًا، كان أبو مسعودٍ ممن بايع عليًّا وأيَّدَه، وقد ذكرنا حبَّه لآل بيت النبوة، ولكنه كان مع ذلك حريصًا على حقن دماء الفريقين، وكان الوَرَعُ الذي يسيطر على تصرفاته يحمله دائمًا على اجتناب ما يظنُّه من الشُّبهات؛ خشيةَ الوقوع في المُهلِكات.
ولَمَّا أراد عَلِيٌّ -رضي الله عنه- الخروج إِلَى معركة صِفِّينَ اسْتَخْلَفَ أَبَا مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيَّ عَلَى الْكُوفَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: قَدْ وَالله أَهْلَكَ اللهُ أَعْدَاءَهُ وَأَظْهَرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُ: إِنِّي وَالله مَا أَعُدُّهُ ظَفَرًا أَنْ تَظْهَرَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الأُخْرَى، قَالُوا: فَمَهْ؟، قَالَ: الصُّلْحُ.
وقد صعد أبو مسعود -رضي الله عنه- عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، وقال للنَّاس: مَا يُعَدُّ فَتْحًا أَنْ يَلْتَقِيَ هَذَانِ الْحَيَّانِ، فَيَقْتُلُ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا رَجْرَجَةٌ مِنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، ظَهَرَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَكِنَّ الْفَتْحَ أَنْ يَحْقِنَ اللهُ دِمَاءَهُمْ، وَيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ. تاريخ الإسلام للذَّهبي (٦٥٨/٣).
ثم اعتزل أبو مسعودٍ -رضي الله عنه- الفتنة تمامًا، ولما سُئِل عن سبب ذلك، قال: كُنْتُ رَجُلًا عَزِيْزَ النَّفْسِ، حَمِيَّ الأَنْفِ، لاَ يَسْتَقِلُّ مِنِّي أَحَدٌ شَيْئًا، سُلْطَانٌ وَلَا غَيْرهُ، فَأَصْبَحَ أُمَرَائِي يُخَيِّرُوْنَنِي بَيْنَ أَنْ أُقِيْمَ عَلَى مَا أَرْغَمَ أَنْفِي وَقَبَّحَ وَجْهِي، وَبَيْنَ أَنْ آخُذَ سَيْفِي، فَأَضْرِبَ، فَأَدْخُلَ النَّارَ. سير أعلام النبلاء (٤٩٥/٣)، وتاريخ دمشق (٥٣٣/٤٠). > منصة خطوة: وحان وقت

الرَّحيل


وبعدما طاف قطار العمر بأبي مسعود -رضي الله عنه- في بلاد الشَّام ومصـر والعراق وفارس، فاتحًا وأميرًا ومعلمًا، يرجع به إلى المدينة، المحطة الأولى التي انطلق به منها، ليختم حياته فيها، فيفوز بقول حبيبه ﷺ: «مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُـــوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا». رواه أحمد (٥٤٣٧)، والترمذي (٣٩١٧)، وصحَّحه الألباني في الصحيحة (٢٩٢٨).
وقد اختُلف في زمن وفاته، فقد قيل: إنَّه مات في خلافة علي بن أبي طالب، وقيل: في زمن معاوية -رضي الله عنهم جميعًا-. التاريخ الكبير (٤٢٩/٦)، وسير أعلام النبلاء (٤٩٢/٣)

إقرأ المزيد :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *