د. محمد حبش… إقبال مؤذن النهضة

قراءة في جناح جبريل

ديوان جبريل :

اشتهر ديوان جناح جبريل لإقبال منذ أكثر من خمسين عاماً حين ترجمه عبد الوهاب عزام، وعزام هو سفير إقبال إلى العالم العربي، وقد نظمه نثراً بلغة واضحة، ثم قام الصاوي شعلان بنظمه شعراً بلغة موسيقية قريبة، فجرى على ألسنة الشباب المسلم في البلاد العربية وصار إلهاماً وحنيناً وقرة قلب.

د. محمد حبش إقبال مؤذن النهضة

ويجتهد هذا المقال أن يقدم مقاربة لروائع إقبال معتمداً على ترجمة أخرى لجناح جبريل لم تحظ بشهرة الترجمات السابقة، وهي ترجمة عبد المعين الملوحي، وقد نظمها شعراً الشاعر السوري زهير ظاظا، وربما لم تكن لهذه الترجمة وهذا النظم شهرة الترجمات السابقة التي حظيت بفرص الانتشار في مصر، وغنتها أم كلثوم، ولكنه يمتاز بالاقتراب من عالم إقبال، وتقديم الفكرة العميقة كما وردت بأقل قدر من الإيديولوجيا.

وإقبال يرسم في قصائده جميعاً صورة صارخة من الانتماء إلى العالم الإسلامي الذي كان يرتسم في خياله بكل عذاباته وهمومه وآلامه، وكان يطوف بين حواضره من المحيط إلى المحيط، على خطى ابن بطوطة الذي ركب من طنجة فطاف تلك العصور الإسلامية كلها وحين بلغ جزر المالديف وجد فرصة عمل مهمة وهي قاضي القضاة، ولم يحتج لا في اغترابه ولا في سفره ولا في عمله إلى لغة أخرى أو ثقافة أخرى أو جواز سفر حيث كانت العربية برصيدها الإسلامي الكبير كافية لتطوف في كل العالم الأفروآسيوي وتحصد في ربوع القارتين العظيمتين المغانم والأشواق والأذواق.

النهضة قدر مشترك بين سائر الأحرار الذين يبحثون عن الإنسان في العالم، ولأجل ذلك فإن صيحات إقبال مثلت في الواقع الصدى الشرقي لنداء النهضة الذي انطلق من الشرق، ومع أن إقبال عاش هموم الأمة الهندية بكل تفاصيلها وارتكب السياسة والتفاوض والإدارة ولكنه ظل يغرد في عالمه وأتقن تماماً كيف يخاطب المشاعر المتوقدة في ضمائرالأجيال الثائرة، ولم يجد العقل العربي أدنى غضاضة أن يتقبل إقبال جزءاً رئيساً من مشروع النهضة وصار اسمه في الشرق كإسم مالك بن نبي في الغرب، صدى طبيعياً لخطاب الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده، ودخل بامتياز قائمة رجال النهضة الذين ساهموا في إلهام الأمة العربية مشروعها التحرري.

مع أن إقبال كان هندي الدن ولكنه ظل يصرخ أن لحنه من عدنان، وأنه وإن كان شاعراً لاهورياً ولكنه معنياً تماماً بما يجري في أرض الكنانة والحجاز وبلاد الشام والرافدين:

أنا أعجمي الدن لكن خمرتــــي       صنع الحجاز وكرمه الفينان

إن كــــان لي نغم الهنود ولحنهم       لكن هذا الصوت من عدنان

إقبال ونظرته للماضي :

وكانت صيحته واضحة في بعث إرادة النهضة في الأمة على أساس من استقراء الماضي واستشراف المستقبل، ولم يتقل أبدا أن يكون الاتجاه للمستقبل وفق مبدأ الكفر بالماضي.

إن النظر إلى الماضي دوماً على أنه يمثل التاريخ الهارب موقف يحتوي على قدر كبير من المغالطة، وعلينا أن نتذكر أن النهضة الأوروبية التي شهدها عصر الأنوار كانت بوجه من الوجوه ردة سلفية، تمرد فيها العقل الأوربي على عصر الإيمان، وشكك في المسلمات التي قدمتها الكنيسة، وأوغل في الماضي ألف عام حتى استخرج القيم العقلية البحتة التي قام عليها الفكر اليوناني وبنيت عليها الحضارة الرومانية فيما بعد

ليس كل جديد يؤخذ وليس كل قديم ينبذ، اختار مالك بن نبي أن يلخص موقفه من جدل الحداثة والمعاصرة بكلمة واحدة، وهي نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وأوضحها إقبال في عشرات القصائد التي تحدث فيها عن معاناته الكبيرة كشاب طموح قادم من مجاهيل الهند إلى جامعات بريطانيا في عصر كانت فيه المملكة التي لا تغرب عنها الشمس، وكانت سيدة العالم الحديث، ولكنها على الرغم مما يحيط بقصورها وقديسيها وأبالستها وشياطينها من عجائب لم تكن لتصرف فؤاده المسكون بروح الشرق عن نفحاته الدافئة، وفيما كان عائداً من لندن الصاخبة بالأهوال كان يطوف حول القباب الخضراء في الشرق، مسكوناً بروحه الشرقية الطافحة بالأسرار ويغني للشرق الواعد:

      رأيت فلاســـــــــــــــة بالألوف           رؤوســــــــــهم تحت أطمارها

      وذو الوحي يكشف عن رأســه            ويهتك أســــتار أســــــرارها

      بريق الحضارة أوج التــــــرف            لدى الغرب لم يستطع فتنتي

       أنا ابن المدينة ابن النـــــــــجف           غبــارهما كان فــــــــي مقلتي

       غبــــارهما قطـــــــــــرة للعيون          وأنفع طب لذي علـــــــــــة

     مقيم برغم ريــــــــــــاح القرون          وما كان من مســـــــتبد عتي

وفي مقاربة مباشرة، يعود إقبال لتقديم قراءة أكثر عمقاً للعلاقة بين الأصالة والمعاصرة، ربما كانت من أعمق ما قدمه المفكرون، وهو يقدمها في مناجاة مع القمر الشاحب آخر الليل، حين يخبو كثير من بريقه وضيائه بعد غياب الشمس المصدر الحقيقي لضيائه ونوره:

شردت نفسها النجوم ولكن           ليس يعني ضلالة واختلاطاً
 لفراق يؤول كل وجـــــــود           ليس عن غفلة وليس اعتباطاً
 يظهر البدر آخر الليل فرداً          أصفر الوجه في السماء وحيداً
 كل نور أخذته من غريب            ســـوف تخبو به رويداً رويداً
 قلبك الشمس فاقبس النورمنه         كل ما ترتجيه نفســـك عندك
 كل شـيء سواك أنت سراب         شـــــــهد الله أنك الحق وحدك

تأثر إقبال في فكرالكواكبي والأفغاني :

تأثر إقبال بصيحات الكواكبي والأفغاني، وكانت تجربة الكواكبي ماثلة أمامه بوصفها أكثر من مجرد رؤية تجريدية ، كانت عملاً وعطاء على الأرض، فقد عمل رئيساً لبلدية حلب حيث قدم سلسلة مشاريع هائلة منها شق قناة قويق وتنوير حلب بالكهرباء وشق ترعة أرمناز إلى إدلب والبدء بالخط الحديدي الحجازي الذي يربط استامبول باليمن، ولكنه شعر بالحيرة وهو يرى مخططاته الطموحة تتكسر عند إرادة السلطان والباشا والقائم مقام فكتب كلمته في سطر واحد له ألف شرح: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وكان يؤلمه تحالف غير مقدس عقدته الإدارة السلطانية مع شيوخ محترفين كانوا يقومون بدور الناطق باسم الرب، ويزعقون في عظاتهم: يا ناس لا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على أمرائكم ولو ضربوا أبشاركم وأخذوا أموالكم، ولكن أصلحوا ما بيني وبينكم أصلح ما بينكم وبينهم، وأربعون سنة من حاكم ظالم أقل شراً من يوم واحد بلا إمام، وصلوا وراء كل بر وفاجر، وغير ذلك من خطاب تسويغ الخمود، الذي تأباه روح الإسلام الداعية إلى الثورة والحرية، وهو ما رفضه الكواكبي وشرحه إقبال في قصيدة رائعة:

فإلى متى صمتي وحولي أمة            يلهو با السلطان والدرويش
هذا بســــــــبحته وذاك بسيفه            وكلاهما ممـــا نكد يعيــش
مـولاي خـذ بيدي ليثرب إنـه            بتراب يثربك المطهر مرهمي
ضيعت إيماني ومعرفتي على           نار المجوس ووسوسات البرهمي

ولكن إقبال لا يكتفي بخطاب عام يتحدث عن حاجة الشباب للنهضة بل يقدم ذلك في صيغة مباشرة وأكثر ملامسة ويواجه بعزيمة وإصرار مراكز التخلف التي توزع أغلالها على العقول، وتقدم لهم وعود السماء وتسرق منهم نعيم الأرض، يتداولها السلطان والكاهن، في تناوب غير بريء تضيع فيه روح الحرية والإرادة، وتروج فيه تجارة الوهم

دم المســـلم النور في دربه          ومعرفة الحب في قلبه
ويعترف العصر أن الجمال          نما وترعرع في دربه
ولولا مدارس هذي الشيوخ         وأحبار سوء ورهبانها
لروى المدينة مما ارتواه            وأشرق بالحب بستانها
  صغار الشواهين ما ذنبها            هم علموها عناق الغبار
هم قتلوا الحب في صدرها          فحل لها بعد خلع العذار

وكأنما كان إقبال فتى من فتيان ميدان التحرير، ترقص آماله مع شباب الثورة، يستيقظ في ضميره حب الحياة وشوق الحرية، فيحطم بيديه الأيقونات جميعاً، ومضى إلى الهيكل غاضباً وقد عصفت به روح الثورة، وخاطب الكهنة بعزيمة هادرة الشعب يريد الحرية والحياة، إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون:

ترى النشــــأ يملأ وجه الطريق           ويملأ عطفيــــه بالاعتزاز
ومفتي الدينة واد ســـــــــــحيق            يضج بمصطلحات الحجاز
أنا لســــــت أفهم هذي الكؤوس            يكدرها مدلهم اللجـــــــــاج      
ومن كان يحسن نحت الصخور            ترفع عن أن يصوغ الزجاج
يقـولون إقــبال ماذا يــــــــــريد             ومن أين جاء بهذا السلوك
ســـــــألت الدراويش عن سرها             وألقيتـــــه في وجوه الملوك


إقبال وثورة الشباب :

وفي نشيده مع الثائرين وقد أراد الحياة واستجاب له القدر، فإنه يطوف بين شباب الثورة، في ميدانهم الشامخ، وصيحاتهم الهادرة، وتحين منه التفاتة فيشاهد في غمرة هذا النشيد الهادر فئة من أصحاب الرتب العالية يبذلون من مائهم ليساوموا شباب الثورة على ما يشاؤون من رغد الحياة، وبهارجها، وعلى الرغم من خطابهم المعسول وحقائبهم المشحونة ببريق الذهب، ولكن شباب الثورة لا يساومون على حريتهم، فالقيد قيد سواء كان ذهباً أو فولاذاً أو رصاصاً، ومن تنسم عبير الحرية ترفع أن يشم غبار الذل، وحيت يقرأ صحا فالتاريخ فإنه يجد نفسه غابطاً لفرهاد، أسيراً لسحر بسالته، ولا يجد في قصور أبرويز وسندسه وإستبرقه ومطارفه وحواشيه ما يشد شيئاً من خفق قلبه:

  ممكن يشترى غنى أبرويز             وجراح فرهاد هيهات تشرى
والذي يجعل القلنـــدر حراً              أنــه لا يطيـــق للسر نشراً

مع أنه من أعظم دعاة السلم في الأرض ولكنه يفهم تماماً أنه لا معنى لسلم العاجز، وأن القادر على صناعة السلام هو القوي الأمين، الذي يملك قراره وحريته، ويملك الرغبة الكاملة في صناعة الحرية:

  لست عن متعة أمزق ثوبي                  تلك أسرارنا وليست وساوس
  طمعي الفرد والمطامع كثر                 هبة الفكر من رقاد المدارس
  رأي غاندي إن كنت غير قوي              غير مجد في ملتي واعتقادي
  ليــــــس إلا عصا الكليم لسحر              برهمي مشعوذ في البلاد


ويدرك جيل النهضة أن المشروع الذي يطالب به الرواد لم يعد محض ثرثرة في قاعات نخبوية مع قوم أوتوا معايير الجدل والحكمة، بل صار زلزالاً يحرك الجماهير في الأرض ويقعقع أبواب السماء

ذهب الدراويـــش الذين عهدتهم              لا يأبهون لصـــــــــارم ومهند
وبقيت في حرم يتاجر شـــــيخه              بوشاح فاطمة ومصحف أحمد
لما اشتكى لله إســـــــــرافيل من             شكواي قال بحرقة وتنهــــــد
هـــــذا الفتى قبل الأوان يريد أن            ينهي الوجود بشـــعره المتمرد
فأجابه صوت أليس أشد مـــــــن            هذي النهاية ما ترى يا سيدي
إحرام أهل الصين داخل سورها             وهمود مكـــة في جوار محمد

لقد رسمت كلمات إقبال على صفحة الشعر العربي أغنية لمشروعه النضالي الذي صاغه بلغة علمية في كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام، ونقله إلى العربية عباس محمود العقاد، وهو هناك لم ينظر إلى الإسلام على أنه رسالة غيب طافحة بالأسرار، نرتلها تمائم غامضة فتدفع عن العالمين بؤس الجاهلية، لقد قرأه كفاحاً سياسياً بامتياز، وصدح برسالته الخالدة في الحرية، التي كانت في العمق تمرداً على كل وثن أو صنم أو كاهن يحتكر الحديث باسم الرب، وكان يؤلمه أن هذه الثورة التي عصفت بالأيقونات جميعاً وحطمت الأصنام، وأعلنت ختم النبوة وبداية عصر العقل، ونهاية ضباب الخوارق وبداية عصر السنن، ولكن هذه الآمال الكبار يختصرها السلطان للشعب على هيئة طقوس يؤديها الناسكون وتراتيل يؤدونها وتمائم يعلقونها، ثم يعود الدهماء للخضوع للملا والملا للأغنياء والأغنياء للسلطان والسلطان للعسكر في دائرة مقيتة لا تكاد تجد فيها معنى التوحيد الخالص:

ليس السجود تهدل الكتفين من طول القعود

ما كان أغنى عن سـجود آخر فهو السجود

في جولتك في المدن العجيبة المشحونة بالأسرار من لاهور إلى كراتشي إلى راولبندي إلى بيشاور ستجد صور إقبال تملأ صفحة الحياة كما تجد كلماته على ألسنة عاشقيه تغرد بمئات الألحان، ولكن صرخته الكبرى ستظل تطل على الحضارة العربية التي أدهشت العالم في وثبتها ثم أدهشت العالم في رقادها:

هــذي الكمـــاة عبـــادك الأخيــار      حملوا عناء العالمين وساروا

البحر حبة خردل في كــــــــــفهم      والعشق في أرواحهم إعصار

فعلت كموسى في البحار عصيُّهم      وتراجعت لخطاهم الأنهـــــار

وبعد أن تغنى بمجدها الذاهب راح يستصرخ على أطلالها وثوب الجيل الجديد، منطلقاً من حتمية تاريخية تشهد لها كل فصول التاريخ، في عصر يقوم وآخر يترامى، ودول تشيخ وحضارات تتجدد وتتكهل، ولا تحتاج لكثير دراسة حتى تدرك أنها سنة الله في الأمم، فلماذا يندُّ عنها هذا العربي الحائر:

إن أرضاً أنت فيها لسمــــــــاء للعيون

كيف لم تشهد جمالاً أهلها منذ قرون؟


ليت شعري كيف يسرى موكب الشرق الغضوب

ليت شعري أين يمضي منك؟ في أي الدروب


هيج الألمان حول الدين إصلاحاً عريقاً

بدد الأسرار لم يترك بها شيئاً عتيقاً


أصبحت منه هباءً عصمة الباب العجوز

واستفاق الغرب لا يعرف شيئاً لا يجوز


منذ أن ثارت فرنسا بدأ الغرب العراكا

لم تعد تبصر فيها بعده إلا ارتباكا


هي ذي روما التي شاخت على العهد القديم

تحتسي خمراًجديداً معها البابا نديم

ولكنه بجوار صفحة التاريخ الجامدة لا يكتم أشواقه وتوقه إلى الكأس العربي الذي ملأ ذات يوم رحيق الحضارة الإسلامية في العالم وهو يعود ينشدها من جديد:


في فؤاد المسلم اليوم كهذا الغليان

 هو سر الله عن أسراره كل اللسان


فارقبوا من ذلك الواثب في بحر الفضاء

 وارقبوا الكوب الذي يختاره ماء السماء

إنه لأمر مدهش أن يتمكن الشاعر الهندي من العزف على أوتار القلوب العربية فيلهم شبابها القيام والثورة، ويبعث فيهم إرادة الحياة والتنافس والتفوق، في حين يعجز شعراء عرب كثير أن يبلغوا تلك المكانة وذلك التأثير.

إنها فرصة لأدعو موجة شعرائنا الجديدة من شباب العرب أن يعيشوا هم أمتهم بذلك الصدق النادر، وأن يرسموا كلماتهم في ضمائر الشباب اللاهبة، نوراً وناراً وعزيمة، يدفعهم لاقتحام المستقبل وبناء البروج الجديدة في معبد اليقين.

إقرأ أيضاً :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *