العفو والصَّفح والمسامحة متى وكيف


 وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

   العفو والصَّفح متى وكيف؟


الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسوله، وبعد:
قال أحد العلماء : (الجهل والظُّلم: هما أصل كلِّ شرٍّ، كما قال سبحانه: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}  ). اقتضاء الصراط المستقيم  (أَيْ: فِي طَبْعه الظُّلْم وَالْجَهْل، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَهُمَا مَا لَمْ يَعْصِمْهُ وَازِعُ الدِّينِ).  
وإذا كان من طبع البشر الظُّلم والجهل فهم محتاجون أشدَّ الحاجة إلى أن يعفو بعضهم عن بعض، ويصفح بعضهم عن بعض؛ حتى تدور عجلة الحياة.

 معنى العفو والصَّفح، والفرق بينهما:


الْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ وَلَوْ مَعَ تَوْبِيخٍ.
والصَّفح: تَرْكُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ مع ترك التَوْبِيخٍ عليه أيضًا.
فقد يعفو الإنسان ولا يَصْفَحُ؛ ولذلك قال تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
فالصَّفح أبلغ من العفو، وفيه ترقٍّ في مكارم الأخلاق من الحسن إلى الأحسن.  
 

 حثُّ الشَّرع على العفو والصَّفح:


لقد رغَّب الله تعالى ورسولُه ﷺ في العفو والصَّفح عن النَّاس لما فيه من إصلاح في المجتمع، وأُلفة بين أفراده، قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}  , وقال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}  ، ({فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} أَيِ: الْمُشْرِكِينَ، {وَقُلْ سَلامٌ} أَيْ: لَا تُجَاوِبْهُمْ بِمِثْلِ مَا يُخَاطِبُونَكَ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ وَاصْفَحْ عَنْهُمْ فِعْلًا وَقَوْلًا).  
وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}   وفي هذا ترغيب في العفو والصَّفح، فالتَّقدير: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم؛ لأنَّ الله غفور رحيم، أي: للذين يغفرون ويرحمون.
وقال النبيُّ ﷺ: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ».


  من فضائل العفو وثمراته:


١- العفو من صفات الله تعالى:
فمِن أسماء الله الحسنى: (العفُوُّ)، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ عَفُوًّا عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ، وَتَرْكِهِ الْعُقُوبَةَ عَلَى كَثِيرِ مِنْهَا مَا لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ).  
قال الخطابي -رحمه الله-: (العفُوُّ وزنه فَعُولٌ من العَفْوِ، وهو بناء المبالغة، والعفو: الصَّفح عن الذُّنوب، وترك مجازاة المسيء. وقيل: إنَّ العفو مأخوذ من عفت الريحُ الأثرَ إذا درسته، فكأنَّ العافي عن الذَّنب يمحوه بصفحه عنه).
قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟
قَالَ: تَقُولِينَ: «اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُوٌّ، تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي».

٢- والعفو من صفات النبيِّ ﷺ:
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ.
قَالَ: (أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا، وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ [الفظ: سيِّئُ الخُلُقِ، خَشِنُ الجانب. ]، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ   فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ).  

٣- العفو والصَّفح من مكارم الأخلاق التي ينبغي أن يتحلَّى المؤمن بها:
قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}  ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: (أَقْرَبُهُمَا لِلتَّقْوَى الَّذِي يَعْفُو).  
وعَنِ الْحَسَنِ -رحمه الله- قَالَ: (كَانُوا يَقُولُونَ: أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَفْووالصفح  وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ -رحمه الله-: (لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَصْلَتَانِ: الْعِفَّةُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالتَّجَاوُزُ عَنْهُمْ).
وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ: مَا تَقُولُ فِي الْعَفْوِ وَالْعُقُوبَةِ؟
قَالَ: (هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْجُودِ وَالْبُخْلِ فَتَمَسَّكْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ).
وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف أو ما هو خير من الإنصاف؟
فقال: وما هو خير من الإنصاف؟
قال: العفو.

٤- العفو من الإحسان:
قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}  ، فتعقيب الأمر بالعفو بحُبِّ الله للمحسين تنبيهٌ على أنَّ العفو من الإحسان. ينظر: تفسير أبي السعود .

٥- العفو يجعل العدوَّ صديقًا:
فإذا عفوتَ عمَّن أساء إليك فقد أسرته بإحسانك وانقلب وليًّا حميمًا لك، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، قال ابن عباس -رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-: (أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ).

٦- والعفو سبب من أسباب دخول الجنَّة:
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
جَاءَتْ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ جَارِيَتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِصَحْفَةٍ فِيهَا مَرَقَةٌ حَارَّةٌ، وَعِنْدَهُ أَضْيَافٌ، فَعَثَرَتْ، فَصَبَّتِ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يضربها، فقالت الجارية: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ}.
قَالَ لَهَا: قَدْ فَعَلْتُ.
فَقَالَتْ: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ}.
فَقَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْكِ.
فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
قَالَ مَيْمُونٌ: أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.

٧- ومن عفا عن النَّاس عفا اللهُ عنه:
فإنَّ الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
قال ابن القيم -رحمه الله-: (الْجَزَاءُ مُمَاثِلٌ لِلْعَمَلِ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ عَفَا عَنْ حَقِّهِ عَفَا اللَّهُ لَهُ عَنْ حَقِّهِ).
وقَالَ النبيُّ ﷺ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ».
وقَالَ النبيُّ ﷺ: «ارْحَمُوا تُرحموا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ».

٨- والعفو سبب لرِفعة صاحبه في الدُّنيا والآخرة:
قال النبيُّ ﷺ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا».
قال القاضي عياض -رحمه الله-: (قوله: «وَمَا زَادَ الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا» فيه وجهان:
أحدهما: ظاهره أن مَن عُرِفَ بالصَّفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عِزُّه.
الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزَّته هناك).


ويحسن العفو عند المقدرة:


فالعفو عند المقدرة يدلُّ على شرف النَّفس وسمو الأخلاق؛ لأنَّه عفا وهو قادر على الانتقام، أمَّا عفو العاجز فإنما عفا غالبًا لأنَّه لا يملك خيارًا آخر على قول المثل: (مُكْرَهٌ أخاك لا بطل)!
عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ -رحمه الله- فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}  ، قَالَ: (كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، وَكَانُوا إِذَا قَدِرُوا عَفَوْا). وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: (أَحَبُّ الأُمُورِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: الَعَفْوُ فِي الْقُدْرَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْجِدَةِ [أي: الغني]، وَالرِّفْقُ فِي الْعِبَادَةِ .    
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: (أَحْسَنُ الْمَكَارِمِ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ، وُجُودُ الْمُفْتَقِرِ).   
وقال أبو جعفر محمد بن المتوكل -رحمه الله-: (لذَّة العفو أعذبُ من لذَّة التَّشفِّي، وأقبح فعال المُقتدر الانتقام).  
نسأل الله تعالى أن يعفو عنَّا، وأن يجعلنا من العافين عن النَّاس؛ إنَّه هو العفوُّ الغفور.

 إقرأ أيضاً :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *