الحرب في أوروبا مجدداً واستعادة معاهدة ميونيخ 1938

محمد زعل السلوم ـ كاتب سوري

الحرب في اوربا ومعطياتها :

شنت روسيا بوتين يوم 24 فبراير 2022 أكبر حرب تجري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، باجتياح بري وبحري وجوي على أوكرانيا، مما يعني أن أوروبا في حالة حرب مجدداً. مع صعوبة التكهن بنتيجة هذه الأزمة، وستستدعي هذه الحرب العديد من الكليشيهات والمقارنات القسرية باستدعاء التاريخ. وكما يقول هنري كيسنجر : ” نتعلم من التاريخ عن طريق القياس، فهو يسلط الضوء على العواقب المحتملة الناجمة عن مواقف مماثلة”.

وفي الحرب الأوكرانية الحالية ساد نوع من الانتهازية عند اختيار المقارنات التاريخية، وهذا لا يفسر الصراع الحالي برمته، لكنه يساعد على فهم محدودية إعادة توجيهه”.

ففلاديمير بوتين في 21 فبراير مع اعترافه بالإقليمين الانفصاليين دونيتسك ولوغانتيسك يعود بالتاريخ للمعاهدة المذلة لروسيا عام 1918 وهي معاهدة بريست ليتوفسك، والتي تنازلت روسيا بموجبها عن سيطرتها على دول البلطيق لصالح ألمانيا، وخرجت من الحرب العالمية الأولى بل وتخلت أيضاً عن مقاطعة كارس أوبلاست في جنوب القوقاز للإمبراطورية العثمانية، واعترفت باستقلال أوكرانيا. عندما كانت الثورة البلشفية لازالت حديثة ولم يمضي عام على انتصارها على القيصرية الروسية، كما انتقد بوتين العقيدة السوفييتية بحق تقرير المصير للشعوب، والنتيجة الطبيعية أن أوكرانيا لم تكن أبداً دولة مستقلة. ويبرر بوتين نواياه بغزو أوكرانيا بأنه نتيجة تقليد تاريخي طويل من هجمات الغرب على روسيا ابتداءاً من التحالف البولندي الليتواني إلى ألمانيا النازية وتذكيراً بالسويد وفرنسا النابليونية.

خطاب بوتين والحرب في اوربا

المثير في خطاب بوتين ليس مجرد استذكاره للمظالم القومية التاريخية، بل بانتقاده لاستنكار لينين ما سماه “الشوفينية الروسية العظيمة”. واعتبار الناتو تهديد مفترض للوجود الروسي، وهذا ملفت للنظر. لأن روسيا كانت بالعادة تؤطر الصراعات الإقليمية التي تدخل ضمن مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مثل تدخلها في جورجيا عام 2008 وتدخلها في أوكرانيا عام 2014، كردة فعل للتوسع الشرقي لحلف شمال الأطلسي الناتو.

بالمقابل لم توقع كل من واشنطن وبروكسل أي اتفاقية تميز حدود حلف الناتو، وإنما اكتفوا بتقديم ضمانات للروس ما بعد انهيار السوفييت وتفكك حلف وارسو، ولكن بوتين عاد إلى عام 1918 بدلاً من عام 1989.

بالمقابل اعتمد الناتو في خطاباته إلى عام 1945 ومؤتمر يالطا عندما اتفق ستالين وتشرتشل على تقسيم مناطق النفوذ في أوروبا بعد هزيمة هتلر، والواضح أن أوكرانيا تتحول لمجرد ورقة بين القوى العظمى كوظيفة أخلاقية أكثر منها خارطة طريق للحل بين روسيا والناتو.

الشبح المخيف والذي ازداد استخدامه في لغة الخطاب السياسي، هو معاهدة ميونيخ عام 1938 والتي تنازلت بموجبها كل من باريس ولندن عن منطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا لصالح هتلر الذي هدد بشن حرب حينها إذا لم يقم بستعادة المنطقة الناطقة بالألمانية، وشعرت تشيكوسلوفاكيا بالخيانة حينها لأنها المنطقة التي تتركز فيها صناعاتها الثقيلة والبنوك وكامل اقتصادها، ومع ذلك فتحت تلك الاتفاقية شهية هتلر لشن حرب عالمية وتوسع شرقاً وغرباً إثرها. فالدروس المستفادة من هذه المعاهدة أنه لا يمكن الجلوس على طاولة المفاوضات مع الديكتاتوريات أياً كانت، لأن نتائجها ستكون كارثية في المحصلة. وكما قالت وزير الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت ذات مرة “عقلي في ميونيخ، لكن ذهن معظم جيلي موجود في فيتنام” بمعنى استذكار ميونيخ هي المعنى الفعلي لجاذبية اللجوء للقوة دون النظر لاحتمالية كارثية لعواقب كل حرب. وهو ما قام به بوش الابن فيما بعد في العراق وأفغانستان، وقام به بوتين في سوريا عام 2015، واليوم في أوكرانيا 2022.

أزمة الصواريخ الأوربية :

وإذا عدنا لأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، لجأ المسؤولون الأمريكيون آنذاك للمقارنات التاريخية باستخدام الدروس من ميونيخ لكن جون كينيدي آنذاك استخدم مقاربة أكثر ذكاءاً، عندما شبه تلك الأزمة بهجوم بيرل هاربر الياباني على الولايات المتحدة، وكانت سبب دخولها الحرب العالمية الثانية وكان هذا التصريح لكينيدي بمثابة إنذار واضح.

السؤال اليوم هل يمكننا تشبيه الولايات المتحدة ببريطانيا العظمى وروسيا بوتين بالإمبراطورية الألمانية؟ عندما تحولت حادثة منعزلة عام 1914 باغتيال فرانز فرديناند لحرب منهجية وعالمية.

كتب كافكا في مذكراته عندما شنت ألمانيا حربها يوم 2 أغسطس على روسيا : “اليوم أعلنت ألمانيا حربها على روسيا، وذهبت للسباحة بعد الظهر”. وهي نقطة التحول التي ينتقل عندها النبض الجيوسياسي من عقيم إلى مدمر. وكما يقول مارك توين في عبارته التاريخية : “التاريخ يعيد نفسه”، وأمنيتنا ألا يعيد نفسه وتجنب أصداء الماضي الأكثر شراً وإن كان حاضراً في سوريا اليوم.

إقرأ المزيد :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *