أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه

 إنه حبيب الله وابن عدوِّ الله.السيد الكبير الشهيد ابن شيخ الجاهليَّة.
استشهد في معركة اليمامة سنة اثنتَي عشرة من الهجرة.مَن هو؟ وماذا تعرف عنه؟

 أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ  رضي الله عنه


 اسْمُه ونَسَبُه وَنَشْأتُه:


هو أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، القرشي، المهاجري، اخْتُلِف في اسمه، فقيل: هُشَيْمُ، وقيل: غيره، لكنه معروف بكنيته (أَبُو حُذَيْفَةَ)، قال عنه الحاكم في المستدرك: (حَبِيبُ الله وَابْنُ عَدُوِّ الله)، وقال عنه الذهبي في سِير أعلام النبلاء: (السَّيِّدُ الكَبِيْرُ الشَّهِيْدُ، أَبُو حُذَيْفَةَ ابْنُ شَيْخِ الجَاهِلِيَّةِ).  
نشأ أبُو حُذَيْفَةَ  رضي الله عنه  في مكة، في بيت عريق النسب والشرف، فأبوه هو عتبة بن ربيعة، سيد بني عبد شمس، وأحد سادات العرب، وأخته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب، أحد أشراف قريش.

وكان أبو حذيفة  رضي الله عنه  شابًّا طويلًا، حسنَ الوجه، فصيحَ اللسان، راجحَ العقل، قد ملأ نوادي مكة حيويَّة وانطلاقًا، وقد تزوج من سَهْلَة بنت سُهَيْلِ بن عمرو، سيد بني عامر، فأحاطت به الوجاهة والسيادة من كل مكان.

وكان قلب أبي حذيفة يُنْكِر ويرفض الكثير ممَّا اعتادته العرب في الجاهليَّة، وعلى رأس ذلك عبادتهم لِوَثَنٍ لا يضرُّ ولا ينفع، وكأنه يبحث عن فجر يُضـيء نوره ظلمات الجاهليَّة، وبقي كذلك حتى أشرقت شمسُ الإسلام في مكة.


 إسْلامُه  رضي الله عنه :


لمَّا حمل النبيُّ ﷺ رسالة التوحيد على عاتقه وتحرك بها سِرًّا في أول الأمر كان أبو حذيفة بن عتبة ممَّن سارع بالدخول في الإسلام مُسْتَخْفِيًا، وهو في الثامنة والعشرين من عمره تقريبًا، وأسلمت معه زوجته سهلة، وذلك في أوائل أيام الدعوة، وقبل أن يتَّخذ النبيُّ ﷺ دار الأرقم مقرًّا يجتمع فيه بأصحابه -رضي الله عنهم، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ

وكان أبو حذيفة قد تَبَنَّى ولدًا اسمه سالم، وأشهد الناس عند البيت الحرام على ذلك، وأصبح الناس ينادونه (سالم بن أبي حذيفة)، وقد أسلم سالمٌ بإسلام أبي حذيفة، وكان أبو حذيفة يُحبُّه حبًّا شديدًا تعجب منه أهل مكة، وكان سالم يبادله نفس الشعور، وكان به بارًّا، وله مطيعًا، حتى زَوَّجَه أبو حذيفة من ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة، وبقي سالم يُنادَى بسالم بن أبي حذيفة حتى نزل القرآن يُبطِل التبنِّي ويُحرِّمه، ولكنَّه بقي يحث المسلمين على كفالة الأيتام والمساكين، وها هي أمُّ المؤمنين عائشة تُحدِّثنا بقصة سالم وأبي حذيفة رضي الله عنهم فتقول: (إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ تَبَنَّى سَالِمًا وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ الله ﷺ زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ، فَـمَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ سَالِمًا ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجل فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}، رُدَّ كُلُّ أَحَدٍ يَنْتَمِي مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ أَبُوهُ، رُدَّ إِلَى مَوَالِيهِ، وَكَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ).

وأصبح سالمٌ رضي الله عنه من بعدها يقال له “سالم مَولى أبي حذيفة”، وعاش أبو حذيفة وأخوه في الله سالمٌ…


 في صحْبَةِ رسولِ الله ﷺ:


فقد كان أبو حذيفة يَصْطَحب سالمًا معه إلى مجالس رسول الله ﷺ في دار الأرقم، وفيها تعلَّم سالمٌ القرآن من فَمِ رسول الله ﷺ وهو في سِنِّهِ الصغيرة، فكأنَّ القرآن نُقش على صفحة قلبه نقشًا، فأصبح من أكثر الناس قرآنًا، ومن أحسنهم صوتًا، وقد سمع النبيُّ ﷺ قراءته للقرآن ذات ليلة فأُعجب بتلاوته، فقال ﷺ: «هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، الْحَمْدُ لِله الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا».

وظلَّ أبو حذيفة يَحُثُّ سالمًا على تعلُّم القرآن وحفظه، ويُفَرِّغ وقته لذلك، حتى بلغ مكانةً فيه، وأجازه النبيُّ ﷺ وحثَّ المسلمين على تعلُّم القرآن منه، وذلك حين قال ﷺ: «خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالٍم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْب ولا شك أن كل حرف من القرآن قرأه سالمٌ أو عَلَّمَهُ يكون إن شاء الله تعالى في صحيفة حسنات أبي حذيفة.


بدايةُ الْمِحْنَةِ في حَيَاة أبي حُذيفةَ:


وبَقِيَ أبو حذيفة رضي الله عنه يُسِرُّ إسلامَه حتى جَهَرَ النَّبِيُّ ﷺ بالدعوة وشاع خبره، وعلم عتبة بنُ ربيعة بإسلام ولده فاشتعلت نيران الغضب فيه، ومن هنا بدأت المِحْنَةُ في حياة أبي حذيفة، وذاق طعم المُعَاناةِ بعدما كان يعيش حياة الرَغَدِ والسيادة والرفاهية، وضَاقَتْ عليه مَكَّةُ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله ﷺ وَفُتِنُوا فِي دِينِهِمْ، ومنهم مَن تمزقت أشلاؤه تحت سياط الكفر والعناد، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله ﷺ: «إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ فَألْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ».  


هِجْرَتُهُ إِلَى الْحَبَشَةِ:


وخرج أبو حذيفة بآل بيته رضي الله عنهم متسلِّلًا مُسْتَخْفِيًا خلف سُتُور الليل المُرْخَاة، فركب البحر مع أصحابه المهاجرين، حتى رَسَتْ بهم سفينتهم على سواحل الحبشة، فنزلوا بها ومكثوا فيها آمنين مطمئنين.

وفي فترة مُكثهم هناك أسلم حمزة ثم عمر بن الخطاب فأعز الله الإسلام بهما، فخرج النبيُّ ﷺ بأصحابه يومًا عند الكعبة فصلَّى بهم وقرأ بآيات من سورة النجم، فاجتمع الناسُ حول الكعبة ينظرون إلى مشهد الصلاة المهيب، ويستمعون إلى القرآن بصوت عَذْبٍ يَأْسِرُ القلوب، في لحظاتٍ خَيَّمَت فيها سحائب الخشوع فوق رؤوس الحاضرين جميعًا، فلما بلغ النَّبِيُّ ﷺ قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}  

(سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ)، فأُشيع بين الناس أن قريشًا قد أسلمت، وطار الخبر الكاذب إلى الحبشة فرجع أبو حذيفة ومعه أصحابه المهاجرون فرحين بالخبر، فلمَّا وصلوا مكة وجدوها مفروشةً لهم بألوان العذاب، ولكنَّ أبا حذيفة وآل بيته دخلوا في جوار أبيه عتبة بن ربيعة فلم يَمْسَسْهُمْ سُوء.  

وقد تعجَّب عُتْبَةُ بن ربيعة من حال ولده أبي حذيفة، فقد رأى وَلَدَهُ المترف قد ترك كل شيء له في مكة وفَرَّ من أجل دينه بآل بيته إلى أرض بعيدة، يعيش فيها غريبًا فقيرًا بعد الغنى والسيادة والشرف، وبدأ الصـراع في نفسه يبلغ ذروته، صراعٌ بين إعجابه بولده المُنَعَّم الذي هجر اللذائذ، وتحمل ما لا يُطاق من أجل دين اقتنع به فاتَّبعه وتمسك به حتى مُلِئَ إِيمَانًا، وبين غضبه من محمدٍ ﷺ الذي سَوَّلَ له الشيطانُ أنه فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ولده، حتى دفعه صراعُ نفسه إلى أنْ (قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ الله ﷺ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيَّهَا شَاءَ وَيَكُفُّ عَنَّا؟… فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قُمْ إلَيْهِ فَكَلِّمْهُ، فَقَامَ إلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ الله ﷺ فَقَالَ: يَا ابن أَخِي، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ، قَالَ: يَا ابن أَخِي، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ. حَتَّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، وَرَسُولُ الله ﷺ يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: أَفْعَلُ، فَقَالَ: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} ثُمَّ مَضَى رَسُولُ الله ﷺ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ، أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ الله ﷺ إلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ»، فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: نَحْلِفُ بالله لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاَلله مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاَلله مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَـرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فاعتزلوه، فواللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاَلله يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ ).

وكأنِّي بأبي حذيفة ﷺ يعتريه الحزن لمَّا علم أنَّ أباه كاد أن يسلم، ثم حاد عن الإسلام.


 يَوْمُ الفُرْقَان:


وجاء يوم معركة بدر الكبرى، ذلك اليوم الذي سمَّاه الله في قرآنه بيوم الفرقان، لأنه يومٌ فَرَّقَ اللهُ فيه بَيْنَ الحق والباطل، ومن عجيب ذلك اليوم أنه ذابت فيه عصبياتُ الجاهلية والقبلية، وانقطعت فيه أواصِرُ الدم والنسب والعرقيَّة، وبقيت رابطة واحدة، وهي رابطة العقيدة وأخُوَّةِ الدِّين، وقد جَسَّدَ المؤمنون صورتها على أرض بدر، فقد اختلفت ألوانهم وأوطانهم وعشائرهم وطبقاتهم وأعمارهم، ولكن رابطة الإيمان جعلتهم جَمِيعًا على قلب رجل واحد.

وقد اكتملت الصورة يومها حين وقف الأبناء أمام الآباء، والإخوة أمام الإخوة، كُلٌّ تحت رايته، فقد انقسم الناسُ يومها في ساحة المعركة إلى حزبين منفصلين، حِزْبُ الله ويحمل المسلمون فيه راية أوليائه، وحِزْبُ الشَّيْطَانِ ويحمل المشركون فيه راية أوليائه، فكانت بحقٍّ صورة حيَّة إذا وقفت أمامها متأمِّلًا ستفهم معنى قول الله -تعالى-: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}


 أبُو حُذَيْفَةَ فِي سَاحِةِ المَعْرَكَةِ:


واصطفَّ الفريقان في ساحة المعركة، وفوجئ أبو حذيفة رضي الله عنه بأبيه وأخيه وعمِّه يخرجون من بين جيش المشركين مُشْهرين سيوفهم، وأبوه عتبة بن ربيعة يدعو للمبارزة، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لأبي حذيفة أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ، فتقدَّم ليواجه أباه بسيفه، عملًا بقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولكنَّ النبيَّ ﷺ منع أبا حذيفة وقال ﷺ له: «دَعْهُ يَقْتُلهُ غيرك».

 إصْرَارُ عُتْبَةَ عَلىَ المُبَارَزَةِ:


قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: (تَقَدَّمَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ فَنَادَى مَنْ يُبَارِز؟ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ، إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَة).

وها هو ذا أبو حذيفة رضي الله عنه ينظر إلى أبيه وأخيه وعمِّه وهم مُجندَلُون في دمائهم، وقد خُتِمَ لهم بخاتمة السوء، وماتوا وهم كافرون، فمع إيمانه الراسخ، وولائه الظاهر، وموقفه الواضح، إلا أنَّ ملامح وجهه قد تغيَّرت، ونفسه قد تعكَّرت، فإنه بَشَرٌ يعتريه ما يعتري البشر من حُبِّ الخير لأهله، وحزنه عليهم إن فاتهم ذلك، ولقد أخبرنا نبينا ﷺ أنه رأى آدم عليه السلام في السماء وعلى (يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى).

فلا غرابة في تعكُّر نفس أبي حذيفة رضي الله عنه عند رؤيته مشهد قتل أبيه وأخيه وعمِّه وهم على الشرك، أَعْدَاءً لله ورسوله، فإن الإسلام ما جاء لِيميت المشاعر أو يُجمِّدَهَا، بل جاء ليهذبها ويجعلها تسير في مسارها الصحيح.

وقد أحاط الصمت أبا حذيفة رضي الله عنه، وفجأة اخترقت مسامعه كلماتٌ لامست مشاعره المتوترة، فجعلته يخرج غَاضِبًا عن صمته، بل عن شعوره كله، فيا تُرى:


 ما الذي أغضَبَ أبا حُذيفة؟


إنه لمَّا اشتعلت نيران المعركة بمقتل عتبة بن ربيعة، قال النبيُّ ﷺ للمسلمين: «مَنْ لَقِيَ مِنْكُمُ الْعَبَّاسَ بن عبد المطلب فَلْيَكْفُفْ عَنْهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا، فَقَالَ أَبُو حذيفة بْنُ عُتْبَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَعَشَائِرَنَا وَنَدَعُ الْعَبَّاسَ؟! وَالله لَأَضْرِبَّنَهُ بِالسَّيْفِ».

ولا شك أن النبيَّ ﷺ ما أراد محاباة العباس لأنه عمَّه، فإنه ﷺ لم ينه عن قتل العباس وحدَه، بل نَهى عن قتل أيَّ أحد من بني هاشم في المعركة، وذلك لأسباب، منها: أنهم خرجوا مُستكرَهين كما أخبر النبيُّ ﷺ، ومنها عرفان النبيِّ ﷺ بمواقفهم النبيلة معه وهو رسول الإسلام، فقد منعوه من قريش وأحاطوه وهم ليسوا على دينه، ودخلوا معه شِعْبَ أبي طالب لما حُوصر فيه المسلمون لثلاث سنوات، حتى أكلوا معه ورق الشجر من قلة الطعام وشدة الجوع، وبلغ بالمرأة من نسائهم أنها لا تجد في ثديها لَبَنًا لرضيعها، وحتى مات بعضهم بعد الخروج من الحصار من شدة ما لاقى فيه مثل أبي طالب، وقد نهى ﷺ أيضًا عن قتل أبي البختري بن هشام، وهو ليس من بني هاشم، ولكن عرفانًا بموقفه في نقض الصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش وعلقتها في الكعبة تُحرِّض فيها على مقاطعة بني هاشم حتى يسلموهم رسول الله ﷺ لهم، بل ولم يَنْسَ النبيُّ ﷺ مواقف المطعم بن عدي النبيلة معه وهو ليس من بني هاشم، فلما وقع مشركو قريش في الأسر يوم بدر قال ﷺ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ».

فقد كان ﷺ لا ينسى أبدًا صاحب الفضل وإن كان كافرًا، فمن هذا المنطلق كان نهي النبيُّ ﷺ عن قتل هؤلاء.

أمَّا أبو حذيفة رضي الله عنه  مع أنه أحد السابقين الأولين من المؤمنين إلا أنه بَشَـرٌ خيَّمت عليه سحائبُ الحزن حين رأى خاتمة السوء التي خُتِمَت لأبيه وأخيه وعمِّه، فتوترت مشاعره، فقال كلمته في ثورة من الحميَّة، وجُموح للعاطفة، وليس اعتراضًا على أمر رسول الله ﷺ، لذلك تفهَّم النبيُّ ﷺ الأمر، وراعى ما فيه أبو حذيفة، فغفر له.

 النبيُّ ﷺ يدعو لأبي حذيفة:


وبعد انتهاء المعركة بنصر المسلمين أمر النبيُّ ﷺ بجثث المشركين أن تُسْحَبَ فتطرح في القَلِيب ليدفنوا فيه، وجاء أبو حذيفة ينظر إلى أبيه وأخيه وعمِّه وهم يُطرحون مع جثث المشركين في القليب، فاختلطت في نفسه فرحة النصـر بآلام الحزن، وها هي أمُّ المؤمنين عائشة  رضي الله عنها  تُحدِّثنا عن هذا المشهد، فتقول: (أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ أمر بِالْقَلِيبِ فَطُرِحُوا فِيهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ الله ﷺ فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا».، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ الله، تُكَلِّمُ أَقْوَامًا مَوْتَى؟! فَقَالَ: «لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقٌّ».، فَلَمَّا أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا عُرِفَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ الْكَرَاهِيَةُ وَأَبُوهُ يُسْحَبُ إِلَى الْقَلِيبِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «يَا أَبَا حُذَيْفَةَ، وَالله لَكَأَنَّهُ سَاءَكَ مَا كَانَ فِي أَبِيكَ»، فَقَالَ: وَالله يَا رَسُولَ الله، مَا شَكَكْتُ فِي اللهِ وَفِي رَسُولِ الله، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ حَلِيمًا سَدِيدًا ذَا رَأْيٍ، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ لَا يَمُوتَ حَتَّى يَهْدِيَهُ اللهُ  عَزَّ وَجَلَّ  إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنْ قَدْ فَاتَ ذَلِكَ وَوَقَعَ حَيْثُ وَقَعَ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ، قَالَت: فَدَعَا لَهُ رَسُولُ الله ﷺ بِخَيْرٍ).  
وعاد النبيُّ ﷺ والمسلمون تغمرهم فرحة النصـر ومن بينهم أبو حذيفة، ولكن الكلمة التي قالها يوم بدر بقيت شَبَحًا مُخِيفًا يتراءى له أمام عينيه من الحين إلى الآخَر، يُقْلِقُ طمأنينته، ويُلقي به في بحار الندم، فكان كلَّما تذكر تلك الكلمة يقول: (مَا أَنَا بِآمِنُ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ، وَلَا أَزَالُ خَائِفًا حَتَّى يُكَفِّرَهَا اللهُ عَنِّي بِالشَّهَادَةِ).  
 

 مَوعِدٌ مَعَ الشهَادَة:


عاش أبو حذيفة  رضي الله عنه  حياته كلها في سبيل الله، بين هجرة ومحنة وجهاد، فقد شهد مع النبيّ ﷺ كل مشاهده، ولم تفته غزوة معه في سبيل الله، حتى مات النبيُّ ﷺ وهو عنه راضٍ.

وبعد موت رسول الله ﷺ ظنَّ الكافرون أن الإسلام أصبح لقمة سائغة يمكن ابتلاعها، فارتدت بعض قبائل العرب، وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ، وجاءت التهديدات إلى دولة الإسلام من كل مكان، فوقف الخليفة أبو بكر الصديق والصحابة  رضي الله عنهم من خلفة في وجه هذه الْمِحْنَةِ كصلابة الجبال الراسيات، والقمم الشامخات في مهب الريح.

ثم دَارَتْ رَحَى حـروب الرِّدة، ومن أشدِّ معاركها كـانت معــركة اليمامة، التي قاد فيها خالد بن الوليد  رضي الله عنه  جيش المسلمين لقتال جيش مسيلمة الكذَّاب، الذي قد جمع لقتال المسلمين جيشًا عظيمًا.

وفيها جعل خالد على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى الميمنة أبا حذيفة بن عتبة، وعلى الميسرة شجاع بن وهب، وعلى الخيَّالة أسامة بن زيد، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس  رضي الله عنهم  .

ودَارَتْ المعركة، ووقعت مقتلة في الجيشين لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُها، وَجَعَلَتِ الصَّحَابَةُ يَتَوَاصَوْنَ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُونَ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ، وحفر ثابت ابن قَيْسٍ لِقَدَمَيْهِ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وهو حامل لواء الأنصار بعدما تَحَنَّطَ وَتَكَفَّنَ، فَلَمْ يَزَلْ ثَابِتًا حَتَّى قُتِلَ هُنَاكَ، وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ  رضي الله عنهم  لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: أتخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ يا سالم؟ فَقَالَ  رضي الله عنه : بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذن، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ عَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ وَامْضُوا قُدُمًا، وَقَالَ: وَالله لَا أَتَكَلَّمُ حَتَّى يَهْزِمَهُمُ الله أَوْ أَلْقَى الله فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي، فَقُتِلَ شَهِيدًا  رضي الله عنه ، وقام أَبُو حُذَيْفَةَ خطيبًا في الناس فقال رضي الله عنه : يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ، ثم حَمَلَ بمن معه على جيش المشـركين حَتَّى أَبْعَدَهُمْ، وَأُصِيبَ  رضي الله عنه  عند ذلك بجراح شديدة أثبتته، ثم سقط  رضي الله عنه  ودماؤه الطاهرة تسيل على أرض اليمامة من أجل إعلاء كلمة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.   فرأه مولاه وحبيبه سالمٌ وهو يسقط على الأرض شهيدًا، فانطلق نحوه وهو يصيح بأعلى صوته: (أبو حذيفة… أبو حذيفة)، فلما وصل إليه وجده قد خرجت روحه ليلحق بركب الشهداء في الجنة، فوقف سالمٌ عند جسد أبي حذيفة وهو يحمل الراية، وقاتل يومها أشدَّ القتال حتى أحيط به، وكان يحمل اللِّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا بِشِمَالِهِ فَقُطِعَتْ، ثُمَّ اعْتَنَقَ اللِّوَاءَ وَجَعَلَ يَقْرَأُ قول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}   إِلَى أَنْ قُتِلَ  رضي الله عنه ، فوقع على الأرض شهيدًا إلى جنب رفيق حياته أبي حذيفة، فوجدوهما بعد انتهاء المعركة ورأس أحدهما عند رجلي الآخَر، فقد جمع بينهما الموت، كما كانت تجمع بينهما الحياة، لِيلتقيَا إن شاء الله في جنَّات النعيم إخوة على سرر متقابلين.

وكان استشهاد أبي حذيفة  رضي الله عنه  في معركة الْيَمَامَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.  

رضي الله عن أبي حذيفة بن عتبة وعن الصحابة أجمعين.
إقرأ أيضاً :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *